Saturday, June 16, 2007

العبث اللذيذ -- بناءا على طلب المعلقين




بناءا على طلب السادة الزوار و المعلقين، إليكم هذا المقال الذي سبق و نشرته في مقدمة بوست الأبراج، و طلبت مي إعادة نشره هنا للتعليق، هذا هو المقال و لا يبقى إلا تعليقاتكم:


العبث اللذيذ والجدية التي لا تطاق
بقلم أسامة غريب
سبق نشره في المصري اليوم


أُحب شعبان عبدالرحيم ويعجبني ذكاؤه الفطري وقدرته علي استغفال المذيعين الجهلاء الذين يحاولون السخرية منه وإظهاره في صورة مزرية، فإذا به يسحبهم إلي منطقته ويستثمر وجوده علي الشاشة، فيدلي باَراء في السياسة والفن والحياة مليئة بالسذاجة المتعمدة التي أدرك منذ زمن أنها تقربه من الجمهور، وفي الوقت نفسه تداعب غرور المذيعين الحمقي، بينما هو يضحك في سره من الاثنين اللذين منحاه الفلوس والشهرة مقابل حكايات عبيطة لا يعنيها وشيء من الغناء البدائي!

ولكن إعجابي بذكائه لا يعني أنه مطربي المفضل أو من ضمن المفضلين.. صحيح هو يتواجد مع اَخرين في الشرائط بالسيارة وأسمعه من وقت لآخر، إلا أن الأمر يظل عند حدوده الطبيعية باعتبار هذا النوع من الغناء يخاطب الجانب العبثي من الوجدان .بالضبط كما أستمع الي الجميل محمود شكوكو، مع الفارق أن شكوكو كان يغني لشعراء حقيقيين كالقدير فتحي قورة، ولملحنين حقيقيين كالعظيم محمود الشريف الذين تظل موهبتهم حاضرة حتي مع أغنية تقول: يا دابح قلبي بإزازة.. لماذا الهجر دا لماذا؟، لكني مع هذا لا أستطيع أن أستمع الي هذا النوع طول الوقت، ولا أن أعتبر أن هذا هو الغناء.

ما يحدث الآن ويا للغرابة أن الجانب العبثي من الوجدان الذي كان يغطيه شكوكو وإسماعيل ياسين أو حتي عدوية قد تمدد ليستحوذ علي الوجدان كله، ومن الممكن أن تسأل شابا عن مطربه المفضل فيقول لك: شعبان عبدالرحيم أو حكيم أو محمد عطية، ومن الممكن كذلك أن تسأله عن نجوم التمثيل المفضلين فيجيبك: محمد هنيدي ومحمد سعد وعبلة كامل..

مع أن هؤلاء مع احترامي لهم لا يغطون سوي الجانب الذي كان يشغله زمان استيفان روستي وعبد السلام النابلسي وزينات صدقي، أما النجوم فكانوا شادية وكمال الشناوي وعماد حمدي وليلي مراد، ولم يكن متصورا أن تسأل أحدا عن نجمه المفضل فيقول لك الخواجة بيجو أو الدكتور شديد! وذلك علي الرغم من موهبتهم وحب الجمهور لهم، ولكن المساحة المخصصة لهم في الوجدان كانت محددة ومحدودة، لكن الآن فقد اضطربت الأمور وصار العبث هو سيد الموقف!.

ومن آيات هذه الحالة العبثية أن الناس قد فقدت ليس فقط التمييز بين الغناء الجيد وبين سواه.. لقد فقدوا القدرة علي التمييز بين الغناء الحزين والأغاني المفرحة، وأصبحوا يعيشون الأفراح علي أنغام أغان حزينة،

ولقد تكرر في أكثر من مناسبة أن أحضر عُرسا فأجد الراقصة والفتيات المدعوات ينهمكن في الرقص علي أغنية صارت تميمة في كل الأفراح، مع أنها واحدة من أكثر الأغاني جلبا للحزن واستدعاء للشجن وهي أغنية ع اللي جرا التي كتبها الشاعر محسن الخياط وغنتها المطربة عُليا التونسية منذ ربع قرن، وهي أغنية تتحدث عن عذاب امرأة تشعر بالغربة القاتلة وتعيش الوحدة والوحشة منذ أن سافر حبيبها وتركها تجتر أحزانها مع الرسائل،

وهي تحكي له عما تفعله بها رسائله وكيف تتحرق شوقا في انتظار عودته، وتقص عليه معاناتها وهوانها علي الناس في غيابه، لأنه منذ تركها وسافر لم تسمع خبرا واحدا مفرحا، وهي تحلم بأنها عند عودته ستحكي له عن كل ما جري وستطلق العنان لعواطفها وستترك الدموع تنهمر من مآقيها ولن يجفف دمعها سوي منديله، هذه هي الأغنية.. لكن الناس تنفصل تماما عما تسمعه وتنطلق الزغاريد وتعلو الضحكات بينما الغنوة تحكي عن عذاب بلا حدود.. منتهي العبث!.

نفس الأمر يحدث في حفلات الغناء لأي مطرب.. لا أحد يستمع ولا أحد يريد أن يستمع، الشباب يقفون في مجموعات ويعطون ظهورهم للمغني ويدخلون في فاصل من الرقص يستمر طوال الليل علي كل الأغاني، والمطرب و أغانيه وألحانه في الخلفية بينما الرقص هو الأساس.

ولا أتصور أن أسباب هذه الحالة غامضة أو خفية.. نحن مجتمع صار يضحك ملء شدقيه علي ما يستوجب البكاء، مجتمع ينزف بينما ضحكه الهيستيري يملأ الفضاء، ذلك أن الناس لم تعد تصدق أي شيء يكتسي ثوب الجدية الزائف، وصارت الجدية بالنسبة إليه مرادفة للكذب، ولعل هذا هو السبب في أن جيلا كاملا من نجوم السينما المصرية قد تمت إحالته إلي المعاش بفرمان جماهيري بعد أن أدرك الشباب أن هؤلاء الذين يتكلمون «جد» ليسوا في الحقيقة جادين.

ولقد قرأت بكل أسي في «المصري اليوم» ما يعزز هذا الظن.. قرأت عن التطابق التام في فقرات مقالين نشرا بالمصادفة يوم ٢ ديسمبر الماضي أحدهما في المصري اليوم كتبته أستاذة في الإعلام والآخر نشر في الأهرام كتبته أستاذة في القانون، وكانت الفقرات المتطابقة تعني شيئا واحدا هو أن أيا منهما لم تكتبه وإنما نقلته وقدمته للقراء باعتباره من بنات أفكارها دون أن تشير إلي مصدره، وأستطيع أن أؤكد أن هذا يحدث في الصحافة المصرية كل يوم دون أن يهتم أحد، الصدفة فقط جعلت النشر يتم في نفس اليوم و من ثم لاحظه الجميع و لم يمكن تجاهله.

ولعل هذا ينزع الدهشة عن أي أحد يتساءل لماذا تمدد العبث واحتل الوجدان العام للمصريين، ولماذا هجر الناس الجدية وابتعدوا عن المعني وعن الجدوي واعتمدوا الهلس قانونا وديدنا ولماذا اشتق الشباب لغة جديدة غير لغتنا، مفرداتها شديدة الغرابة وأحدث ما سمعته منها لفظ «الإستكنياص» بمعني الاسترخاء وهدوء البال، ولعل الشباب معذورون، لأنهم بفطرتهم النقية قد أدركوا أن الفيلم كله هندي وأنه بالضرورة زائف وغير حقيقي، وأن العبث هو الشيء الوحيد الذي يطمئنون إليه لأنه يعصم عقولهم من الانهيار ويمنحهم «الإستكنياص» الذي يستحقونه!.