Sunday, January 20, 2008

هل فارقتني .. فجأة .. هكذا .. فعلا؟



أعددت نفسي جيدا و كأني على موعد خاص.. حمامي الساخن، ملابسي الأنيقة، عطري الأثير، حذائي النظيف.. كل شيء على خير ما يرام، قضيت أمام المرأة حوالي نصف ساعة، هل تصدق؟ نصف ساعة كاملة و أنت تعرف أني بالكاد أقضي خمس دقائق فقط أمام المرأة.. لكن اليوم غير كل الأيام، حنيني لك فاق كل الحدود لهذا قررت أن أذهب إلى هناك، إلى النادي، حيث كنا نجلس ساعات و ساعات في مواجهة الشمس بينما كان الباقون يهربون منها، لم أخبر أحدا في البيت أني سأذهب إلى هناك، أدعيت أني ذاهبة للعمل و يبدو أنهم صدقوا حيلتي.


جلست في نفس المقعد، و سلمت وجهي للشمس ثم أغمضت عيناي، مارست لعبتنا القديمة بحاذفيرها، لكنها لم تكن ممتعة على الإطلاق لأن شمس الشتاء هزيلة و لا تعطي إلا لونا واحدا فقط.. اللون الأحمر.. و أنا كنت أريد كل الألوان متجسدة في شخصيات و حكايات. كررت المحاولة حتى نجحت أخيرا.. عندما أغمضت عيني هذه المرة و استسلمت لضوء الشمس لم تكن إلى جواري لتحكي لي الحكاية التي سأرى صورها في ضوء الشمس.. لكني رأيتك أنت بنفسك قد أتيت لي عبر أشعة الشمس التي أخترقت عيوني المغمضة و استقرت بين جفني و قاع العين، جاهدت حنيني بكل ما أوتيت من قوة حتى لا أبكي، خفت إن بكيت تغسل دموعي صورتك التي غابت عني منذ أربع سنوات.. يا ربي! أربع سنوات بدونك؟ من يصدق؟ من يحتمل؟ من يطيق؟


قبضت بجفني عليك فابتسمت أنت ساخرا مني، قلت لي أني لست بحاجة لبذل كل هذا الجهد للإبقاء عليك، و أنك أتيت مخصوص لأجلي و لن ترحل الآن.. فاسترحت و أرحت عيني و ابتسمت، يقولون أني أبتسم بنفس طريقتك، لم أذكر أنك علمتني كيف أبتسم من قبل لكن يبدو أني تشربتك و تشبعت بصفاتك و أتقنت تقليد مشيتك و وقفتك و نظراتك و تصرفاتك، حتى أن اصدقائك و معارفك جميعا يقولون أني الوحيدة في هذا الكون التي تذكرهم بك! لم تكن هي تلك المرة الوحيدة التي أبتسمت أنت و أنا فيها في هذا اللقاء الخرافي، بل تكررت ابتساماتنا مرات و مرات، مرة منهم كانت حين وضعت خدك على خدي كما كنت تفعل منذ عدة سنوات، قبل أن نفترق.. وضعت خدك على خدي بينما أنا مغمضة العينين أشاهدك في ألوان الشمس و رحت تحرك رأسك برفق لتشوكني بشعر لحيتك الخفيفة.. على الرغم من برودة الجو، شعرت بدفء بالغ ليس من تأثير أشعة الشمس، لكنها كانت أنفاسك تحيطني فيهرب البرد و يذوب الجليد الذي تراكم بداخلي فجمد الحياة منذ يوم فارقت... الغريب و الجيمل أيضا أنني بالرغم من أنك كنت تؤلمني و تشوك خدي كنت أبتسم و أضحك موارية بعضا من الآهات اللذيذة، و أنت بالرغم من أنك كنت تشوكني و تؤلمني بفعلتك الشريرة هذه كنت تبتسم و تضحك ضحكتك الطيبة التي أعشقها، إلى حد أنني أقف أحيانا أمام المرأة لأقلدها و أتذكرك.


استدارت الشمس يمينا أو ربما مقعدي هو الذي استدار مع حركة الأرض إلى اليسار، فابتعدت عن وجهي أشعة الشمس و ذهبت معها يا حبيبي، ذهبت قبل أن تودعني أو تضمني أو تقبل جبيني، ذهبت دون أن تسلم عليّ.. تماما كما فعلت في المرة الأولى. فجأة.. هكذا.. لماذا؟ كنت أريد أن أحكي لك عن كثير، لكنك ذهبت و لم تعطني الفرصة.. طيب قل لي، هل لاحظت أني كبرت في السن؟ أصبح عمري الآن ست و عشرين سنة، أخر مرة رأيتك فيها كان عمري واحد و عشرين سنة فقط، و كنت تخرجت لتوي من الجامعة و كان شعري قصير على طريقة ميج رايان الممثلة الأمريكية التي كنت تحب مشاهدة كل أفلامها.. هل لاحظت أني ظهرت لي في رأسي ثلاث شعرات بيضاء؟ لقد أشترتيت سيارة أيضا، و تعلمت القيادة بمهارة.. هل تصدق؟ طبعا لا تصدق فقد فشلت في الماضي عندما حاولت أن تعلمني قيادة الدراجة، لم يكن السبب غباء في عقلي و لكن خوف كبير في قلبك، لم ترد أن يؤذيني شيء أبدا حتى و إن كانت إصابة لعب، كنت تواسيني بأن تقول لي أني حين أكبر ستعلمني قيادة السيارة، لكني أضططرت لتعلمها وحدي دون خوفك و ملاحظتك لأنك رحلت قبل أن تكون عندي سيارة! أصبحت الآن أعمل في مهنة جميلة أحبها و توفر لي كل أطماعي من مال و شهرة.. أذكر كم كنت تسخر مني دائما كلما حدثتك عن حبي للمال و الشهرة، لكن سرعان ما كانت ترتسم على وجهك الجدية و تقول لي أنني أستطيع عمل أي شيء في الدنيا طالما أردته، و أنك ستظل إلى جانبي حتى النهاية.. لكنك للأسف الشديد لم تفي بوعدك و تركتني قبل أن تأتي النهاية.. فجأة.. هكذا!


كنت – قبل أن ترحل – تسميني "الحضن" و مازلت أسميك – بعد أن تركتني – "الحصن"، لم يكن يعجبني أن أناديك "بابا" هكذا فقط لأنك لم تكن كأي أب! بل كنت كل شيء: كنت "الحصن" و لم ترد أنت أن تناديني بأسمي هكذا "داليا" بل أخترت يا حصني أن أكون لك "الحضن".


كان الليل.. كل ليلة في عمري.. ملكي و ملكك فقط، تفضي لي بمكنون صدرك كله دون حدود أو خجل فتستريح، و أحتمي أنا في ضعف بين يديك من قسوة الدنيا على المبتدئين و أخطاء التجارب الأولى فأشعر بالأمان و أتعلم.. كنا نتبادل الكتب و الأفكار و الحوارات السياسية و العلمية و كأننا سنصلح العالم معا، و كأن أحدا لا يفهم شيء سوانا، و كنا نضحك كثيرا و نحكي النكات و نغني ونؤلف أغاني ساذجة مضحكة على المواقف التي تمر في حياتنا، هل تذكر أغنية "يا قاتل الكتكوت" التي ألفناها لأجل أختي الصغرى حين أشترت من مصروفها كتكوتا وحيدا فأهملت في تربيته و قتلته؟ كثيرا ما أردد الأغنية وحدي، لكني في كل مرة أغنيها أبكي بدلا من أن اضحك.. و أراك هناك في عالمك هذا تضحك .. هكذا!


لا أدري كيف أكتسبت تلك القدرة الهائلة على تجاوز الألم يا حبيبي؟ كنت دائما مبتسم، حتى في أصعب المواقف و الظروف، حتى في لحظاتك الأخيرة معي كنت تضحك على الرغم من أنك كنت تعلم علم اليقين أنك سترحل في غضون ساعات و أننا لن نلتقي مرة أخرى أبدا.. هذه هي الصفة الوحيدة التي لم تورثني أياها.. فها قد مرت أربع سنوات و ما زلت لا أستطيع تجاوز الألم الهائل الذي ينتاب صدري كلما تذكرتك، حاولت الهروب منك ألف مرة .. وربما أكثر من ألف مرة و الله العظيم..


ساهمت في خداع نفسي كثيرا جدا لأتجاوز فكرة خروجك من حياتي.. فجأة.. هكذا! تعودت أن أدفع نفسي بلا حذر باتجاه كل رجل يحمل و لو صفة واحدة من صفاتك.. فهذا شاربه يشبه شاربك تماما، و هذا لحيته تشبه لحيتك و هذا يقص شعره بطريقتك بالضبط، و هذا يرتدي ملابس تشبه ملابسك، و هذا له يدين تشبه يديك و هذا و هذا و ذاك.... هذا أسميه حبيبي و هذا أسميه صديقي و هذا أسميه أستاذي و هذا أسميه أبي الروحي و هذا أسميه رفيق الرحلة و هذا و هذا و ذاك... و الحقيقة أنهم جميعا بعضا منك أنت.. كل منهم صورة مشوشة منك لا تغني و لا تسمن من جوع!


لو أعرف مكانك لسبحت البحار و تسلقت الجبال و ركبت السحب و وصلت إليك حتى لو أستغرق الأمر عمري بأكمله إلا ثواني أشوفك فيها (على رأي أم كلثوم التي كنت تحبها و تحفظ كل أغانيها و تستغرق الساعات في شرح معانيها لي) لكنك يا حصني، فارقتني إلى عالم لا أعرف له طريقا إلا الموت.. نعم الموت.. فجأة.. هكذا. و أنا لا أريد أن أموت الآن.


أشتاق إلى كتفك لأنام عليه و يدي معلقة بطرف أذنك، أشتاق إلى إصبع يدك الأصغر لأتعلق به في سعادة بينما نعبر الشارع سويا.. أشتاق إلى حكمتك.. إلى دفء قلبك.. إلى الشعور بالأمان الحقيقي في وجودك.. واحشني يا بابا.. واحشني يا طيب!